عبد الحليم أبو عليا
مسحة الحزن التي تخالط التراث المحكي الفلسطيني تطرح التساؤل، أيعقل هذا القدر من الحزن حتى في لحظات الفرح، أيعقل كل هذا القدر من التفجّع يمتزج بشحنات الغبطة المعدودة...؟! وما هو مسوّغ هذا التمازج، أما من خيار أكثر سروراً....؟!
حين نعود لقراءة هذا التراث ونتفحص مفرداته، نجد الفلسطيني وكأنما كتب عليه ديمومة التوجس وملازمة المخاوف، فلا تمرّ لحظة تخلو من الكآبة، وكأنها قدر يلاحقه لا يرين....!
لا شك أن الظروف التي عاشها الفلسطيني وتفتحت عيونه عليها جيلاً إثر جيل، كانت غاية في التعقيد والقهر، مما يدفع المرء للانكفاء، والشعور المتواصل بالحزن والأسى.
ماذا يملك الفلسطيني، وهو يرى دمه يتعاوره العداة والأقارب..؟!
قرون مضت والعدو وراء العدو يتربص بالأرض وخيراتها، كلما اندحر عدو تلاه آخر أكثر عدداً وعدة، ويرحل "العابرون" ويبقى صاحب الأرض، فلا يحرث الأرض غير عجولها.
إنه الخارج من رحم الرماد جمرة لا تنطفئ يستلّ البسمة من ركام الوجع، وأمّا الحزن فينساب شفيفاً، رقراقاً يعكس عمق الإنسانية لدى الفلسطيني، فها نحن نراه، يتفطّر حزناً في أغنية جماعية تقدم أثناء الدبكة، ترددها النسوة على الأغلب بشكل جماعي، بالقول:
من بيت البيوت.... شوقي مرق خيّال.... من بين البيوت
ما قلتله فوت.... الله على قلبي.... ما قلتله فوت
من أين جاء الحزن هنا، فقد مرّ شوقي – وهو رمز عام للمحبوب – من دروب الحي وهذا فأل حسن، ولكن الأمر المحزن، هو عجز المحبّ عن استضافة المحبوب، بسبب الظروف الاجتماعية القاهرة، التي تحول دون اللقاء، ولمّ الشمل، ولذا ينساب الحزن ويتدفق الندم دموعاً:
(الله على قلبي.... ما قلتلته فوت) أي يا لحسره قلبي ولوعته، حيث لم أتمكن من استضافته.
والموانع الظاهرية البسيطة التي يدلي بها المنشد هي انعكاس لقهر تاريخي طويل، وحواجز خارجة عن إرادة الذات، ولعل هذا الحزن يتجلى أكثر فأكثر فيما يدعى بـ (حنّة الفراق) أي ليلة تكون النسوة منشغلات بحنّاء العروس الأخير قبل زفافها إلى عريسها، تتحلق النسوة حول العروس، يصبغن يديها بالحنّاء، ويرددن ما يسمى "بالترويدة" وهي عبارة عن خطاب عتب توجهه العروس إلى أهلها قبيل الرحيل، فتستهل ذلك العتاب بالقول:
يوم الثلاثا..... لفت الخطّاب.... يخطبوها
يوم الخميس تعلت ع هوادجها
يومن تعلّت وصارت من قفا الجبل
ندهت عليهم بعالي الصوت.... يا ولدي
فهذه العروس التي يفترض فيها أنها تعيش فرحة العمر، لم يشغلها الانغماس بالفرح عن تذكّر أنها ستفارق الأهل والبيت الذي عاشت فيه، والحي الذي هو وطنها الأصغر، وسرعان ما شعرت العروس بالحزن، حيث اعتلت الهودج، ونظرت حولها فإذا بها، قد أصبحت بعيدة عن البيت والحمى، وغدت خلف الجبل، آسفة على الأهل الذين كانوا قرّة العين، طوال ما سلف من العمر، ولكنها شعرت بهم يخذلونها في نهاية المطاف، فتصرخ (يا ..... ولدي) وهذه الصرخة شائعة لدى سواد الناس، وتعني التفجع والحسرة والاستغاثة، فيا من يغيث..!
تدرك العروس أن الأمر قد انتهى فعلاً، وأنّها ماضية لا محالة في البعد عن الحمى، مكرهة أم عن طيب خاطر، لا فرق. حينئذ تبدأ بتوجيه عتبها ولومها إلى الأهل الذين فرّطوا بالقربى، ولم يتمسكوا بأبناء العمومة والأخوال، وأعطوا الغريب، فغرّبوا "غناياهم" أي بناتهم، فتدعو الله عليهم ألا يسامحهم فتقول:
يا الأهل...ياالأهل ما يبرى لكم ذمة
شو اللي عماكم عن ابن العمّ والعمّة
ياالأهل... ياالأهل ما يبري لكم حال
شو اللي عماكم عن ابن الخال والخالة)
وهي تعيب عليهم تهافتهم وسرعتهم في إخراجها من البيت، ولما تودّع صديقاتها وأخواتها، أخذتهم الحال بضرورة "سترة البنت" مع تجاوز كثير من الاعتبارات فتقول:
يا الأم.... يا الأم حشّيلي مخداتي
وطلعت من البيت وما ودّعت خناتي
ولا غدو أن ما تعيشه هذه الفتاة، ليس بعيداً عن الحال التي عاشتها وعبّرت عنها (ميسون الكلبية) زوجة الحاكم الأموي معاوية بن أبي سفيان، حيث آثرت عيش الصحراء على حياة الملوك، وعافت القصور عائدة إلى الخيمة:
وليس عباءة وتقرّ عيني
أحب إليّ من لبس الشفوف
فالوطن – الحي – الشارع – البيت أغلى بكثير من أي شيء آخر، مهما غلا ثمنه..!
وهكذا نرى أنّ من الطبيعي أن يعاني المرء فجيعة الانسلاخ عن الوطن، والتفريط بروابط القربى، وأن من المألوف أن يعيش نوازع الحنين، حين تباعده الأيام عن مسقط رأسه، ولكن المشهد التراثي الفلسطيني يظهر اختلافاً في جوانب عديدة، فهو يشي بالحزن آن الفرح، ولا تمرّ لحظة فرح دون أن تفّرقها مطارق الحزن، تارة يتدفق موجاً عاتباً، وطوراً ينساب من بين الحروف شفافاً رقراقاً، فلا مجال للفرح الخالص وهذا ليس بمستهجن على لغة الإطلاق، فالحزن أشد وأبلغ وأعمق تأثيراً في النفس البشرية من أي عامل آخر، سواءَ كان الفرح أو غيره، فما بالك بحياة الفلسطيني....؟
ولكن الشيء البالغ الأهمية الذي نلحظه من قراءة بعض النصوص التي سلفت، تلُّمس الحميمية العالية التي يتحلّى بها الفلسطيني، وشدة الارتباط بالوطن، حيث يصبح ابتعاد المرء مِن حي إلى حيّ مجاور، أمراً يستوجب الحزن واللوم والعتاب ويدحض مسوغات الرحيل، فالفرح في الوطن وبالوطن للوطن ودون ذلك خرط القتاد...!.