ياسر الزعاترة
قبل شهور لوّح أحد قادة السلطة وحركة فتح بحل السلطة إذا قامت سلطات الاحتلال بطرد آلاف من الفلسطينيين في الضفة الغربية بدعوى الإقامة غير الشرعية، ثم طرحت على استحياء كواحدة من البدائل المتاحة في مواجهة استمرار الوضع الراهن، وها هو الرئيس الفلسطيني يلوح بذات الخيار إثر تردد معلومات حول عجز واشنطن عن فرض تجميد الاستيطان على نتنياهو رغم العروض المغرية التي قدمت له مقابل ذلك.
وعموماً فإن التهديد المذكور يؤكد أن وجود السلطة مصلحة للاحتلال، لأن أحداً لا يهدد عدوه إلا بما يشكل عامل ضغط عليه. أليس كذلك؟ يأتي ذلك في ظل موجة تذمر من طرف الرئيس الفلسطيني تابعنا فصولها خلال الشهور الأخيرة وأدت إلى إطلاقه أوصاف بحق السلطة لم نسمع بها من قبل (من طرفه طبعاً)، لا سيما أنه هو لا غيره الذي طالما اعتبرها أهم إنجاز للشعب الفلسطيني، بل إنه هو ذاته الذي قاتل ياسر عرفات لأنه هدد ذلك الإنجاز بدعمه لخيار الشعب الفلسطيني ممثلاً في انتفاضة الأقصى.
مرة قال إن واقع السلطة هو أرخص احتلال في العالم، ومرة قال إنها (أي السلطة) أكذوبة، ما يعني أنها ليست إنجازاً ولا ما ينجزون، ولو أسهب الرجل في أوصافه لتحدث عن المزايا التي تقدمها تلك السلطة للاحتلال.
والحق أنه ما من شيء يمكن أن يؤدي إلى الضغط على أعصاب القيادة الإسرائيلية مثل التلويح بحل السلطة، على أن يكون ذلك التهديد جدياً، وليس مجرد كلام في الهواء كما كان دائماً، فيما نعلم أن تكرار التهديد لمرات عديدة يفقده قيمته، فضلاً عن أن يدرك المهدد (بتشديد الدال وفتحها) أن من يهدده إنما يمارس الحرد السياسي، فيما يداعب جماهير شعبه لا أكثر ولا أقل.
يذكرنا هذا الأمر بجملة مصطلحات تتعلق بهذه السلطة العتيدة أشرنا إليها مراراً من قبل، لعل أهمها المصطلح الذي نحته الكاتب الإسرائيلي "عكيفا الدار"، وهو "الاختراع العبقري المسمى سلطة فلسطينية"، وأنا شخصياً أشهد، ويشاركني الرأي كثيرون أنها بالفعل اختراع عبقري، إذ قيّدت مسار القضية برمتها، كما قيّدت أصحابها بقيود يصعب الفكاك منها من دون أثمان باهظة بالنسبة للقيادة العتيدة (ساهمت في حشر حماس في "دولة" قطاع غزة أيضاً).
آخرون في الساحة الإسرائيلية استخدموا مصطلح "احتلال ديلوكس"، أي احتلال فاخر، وبالطبع تبعاً لما توفره صيغة السلطة إياها من مزايا أمنية واقتصادية وسياسية للاحتلال، وعلى رأسها التخلص من عبء المقاومة في ظل خروج الجيش من تجمعات السكان والتنسيق الأمني، أي التخلص من الوجه القذر للاحتلال ممثلاً في صدامه مع الناس، فضلاً عن البعد السياسي من حيث التخلص من صيغة الاحتلال المباشر، مع العلم أن مهمة الجنرال دايتون (الآن مولر) وتوني بلير هي المحافظة على هذه الصيغة وتكريسها على نحو لا فكاك منه، الأمر الذي بات واقعاً في ظل القيادة التي سيطرت على حركة فتح والمنظمة بعد ياسر عرفات.
بوجود ذلك الجيش من الموظفين (مدنيين وعسكريين) وتفرغ القيادة بكامل امتيازاتها، والارتباط العضوي بين كثير من رموزها مع دوائر الاحتلال، لم يعد ممكناً حل السلطة، اللهم إلا إذا أصيب القوم بنوبة استشهادية بعرف أهل العلم أن من شبه المستحيل حدوثها في سن متأخرة، وإذا حصل أن فكر الرئيس بالاستقالة مثلاً، فسيبادر الآخرون إلى تدبير الأمر سريعاً على نحو يحافظ على الوضع الراهن.
سيناريو حل السلطة كان بالنسبة للإسرائيليين هو "السيناريو الكابوس"، بحسب تعبير كاتب إسرائيلي هو "يهودا ليطاني"، وكان طرحه بعد عملية السور الواقي التي عاد الجيش الإسرائيلي من خلالها إلى مناطق (أ) بحسب تصنيف أوسلو، من دون أن يبقى فيها بكل دائم.
نؤكد مرة أخرى، أن خياراً من هذا النوع لو كان مطروحاً بالفعل على الطاولة، بل ربما ما هو دونه ممثلاً في وقف التنسيق الأمني والسماح بتحرك أفضل للمقاومة الشعبية والمسلحة، لما تجرأ العدو على هذا المستوى من الغطرسة، لكنه يرى أن كل ما يفعله لا يزيد القوم غير تشبث بمشروعهم "مشروع الدولة"، أي دولة، فيما يرى بأم عينه طبيعة تلك القيادات التي تتحرك على حواجزه وببطاقات في آي بي يمنحها هو لا غيره، كما يراهم ويعرفهم في اللقاءات المختلفة، بما في ذلك القيادات الأمنية، ولذلك فهو مطمئن تمام الاطمئنان ويتصرف على نحو لا يضع في الاعتبار ذلك الرد، أو يهمشه في أقل تقدير.
كل ذلك يؤكد أن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق قيادة السلطة وحركة فتح، وأي كلام غير هذا هو محض كذب وتدليس، ولو قررت تلك القيادة مساراً آخر لوجدت حماس والقوى الأخرى إلى جانبها، ولما كان بوسع الوضع العربي، بما في ذلك "المعتدل" منه، سوى التجاوب بهذا القدر أو ذاك، أقله خوفاً من الجماهير التي لن تسكت على ترك الفلسطينيين يواجهون مصيرهم وحدهم.
صحيفة الدستور الأردنية