تركتني لتنام بعد أن طافت قبلاتها الناعمة على أطراف وجهي, كان رطبا من رذاذِ البحر.. وكان الليل في آخره مدينةً يعزف الصمتُ فيها أغنية البحر ويلقيها في مسمعي.. كانت قد آنستني منذ أن خلد الجميع إلى النوم.. وكان صوتها كما اعتدته دائما.. يحمل ملامحها إليّ بشكل لا أعرف كيف أصفه..
- أبي.. كيف ترى العالم من حولِك وأنتَ لا تراه؟!
...
ـ قالوا إنني تخطَّيتُ الخمسين ببضع سنين.. لا.. لم يقولوها.. أنا حسَبتها.. الأعداد ليست شيئا صعبا لا يمكن حسابه.. الأعداد وهْمٌ ربما اخترعوه لمن هم مثلي.. و كان نصيبهم إبصار الألوان والأشكال.. و لعله أكثر من هذا..
بعد الصرخة الأولى في وجه الحياة.. كنتُ مُتَّسِخًا.. وبقيتُ حيًّا.. رغم أني لا أفهم ماذا تعني القذارة أو النظافة, إلا أن رائحة النفايات التي أمر بقربها حين أكون سائرا في الشارع تقرِّب لي معنى القذارة.. وربما هي كل ما أنتن..
بقيتُ حيا.
نعم.. لم أمت.. ولم أنته.. وفتحتُ عينيَّ أيضا.. ومنذ ذلك اليوم قالوا عني (مسكين, مسكين)..
لا أدري لماذا أسموني هكذا!!..
وماذا في الأمر.. ألستُ إنسانا وبإمكانه الحياة .. فلماذا أكون مسكينا!! ..
سألتُ أمي حين كنت صبيا.. سألتها وأنا أتلمس وجهها بأناملي:
- لماذا أكون مسكينا.. وأنا حي؟!
شعرتُ بأنها تبكي وتبللت سبابتي بدمعتها الساخنة
- الحياة جميلة يا ولدي.. وأنتَ لا تراها.. ويا حسرتي عليك..
لم أفهمها حتى هذه اللحظة.. ما هو الجمال فيها؟! وماذا تقصدون بالجمال؟!
لا تبدو لي قبيحة.. ولا تبدو لي جميلة.. لا تبدو لي شيئا يستحق أن أكون مسكينا لأني لا أبصره.. كل ما في الأمر أني لا أراها.. وكيف ترونها أنتم؟! هل تعيشون أكثر من أربع وعشرين ساعة في اليوم.. كيف تختلفون عني.. وكيف أكون مسكينا؟!
- أشعر جيدا يا ابنتي بالبحر..
- وكيف تراه؟!
- إنه مالِح.. رذاذه يقيم على وجهي وحواف شفتي.. جربي أن تلعقي شفتيك..
أرأيت كم يبدو مالِحا!!
- إنه أيضا أزرق ولامع؟!
- إنه منعِش.. وحزينٌ!!
- أهكذا تراه؟!
- بل هكذا أحسِّه.. وربما أراه..
- !!
- لا تصمتي.. أراه بفطنةٍ سريالية.. كبير ربما.. وربما صغير.. لكنه مهيب.. فصوته لا يوحي بالدفء والأمان!!
انقطعت الكهرباء ذلك المساء وفزعت صغيرتي.. قالت بخوف:
- أبي, اتصل بصاحب الفندق واسأله عن الكهرباء؟!
...
ضوء الكهرباء يُبدد فزع ابنتي..
وما هي الكهرباء؟!
..
قالوا لي:
- إن العتمة هي فقد القدرة على الرؤية.. وإن الضوء هو حالة تُمكِّنكَ من الرؤية!!
..
تساءلتُ يومها: وماذا سنرى حين تعمل الكهرباء!!
قالوا.. كل شيء!!
..
لكنني أيضا أرى كل شيء.. فهل هي الكهرباء!!
جاوزت الخمسين ببضع أعوام.. وقرأت عن العالم كلّه بأناملي.. كنتُ أقرأ في كل وقت.. قرأتُ عن الشجاعة, الفتوة, السلام, الحرب, عن الموت والحياة.. تجولتُ في قصر إليزابيث.. وتحسَّسْتُ نتوءات جبل الأقرع.. لم أجد وقتا لأقرأ عن المساكين.. وحين صادفتني قصة (البؤساء) عرفتُ أن الفقر والجوع والحاجة هم المسكنة.. وأنا لست جائعا.. ولستُ محتاجا سوى لعصاي.. وهذه ليست بذات ثمن..
قلتُ في نفسي:
"لا شك أن خشونة الحجارة والصخور, وألم الأعشاب الشوكية النابتة بينها.. تعني الحياة التي لم أرها.. وربما ذلك الغبار الذي يورثني العطاس والكُحة هو أشبه شيء بعالمي.. الغبار كالهواء, أنّى استدرتَ لفحتكَ رائحته!!"..
قرأت أيضًا أن إليزابيث لم تعاني يوما من أزمة ربو, أو حساسية!! ربما لأنها تعيش في قصرٍ لا تدخله الحقيقة.. غريبٌ جِدا.. ألم تقرأ عن البؤساء.. والجائعين؟!
ألم تقرأ وهي البصيرة.. إن كان البصر حقًّا يُفهِم الناس معنى (الكهرباء)!! قرأت عن الحقيقة الغائبة رغم وجود الضوءِ.. الحقيقة عالمٌ ابتدأ منذ أن بنى الإنسان الأول كوخًا بين أكوام الأشجار والأفاعي.. وبقايا طبيعةٍ خلَّفتها أعوامٌ طويلة من التَّكوُّن..
ولكن كيف أصبح شكلها الآن؟! لست أشعر بأكثر من حاجتي لهواء المكَيِّف البارد في القيظ.. و صوت الليل للإحساس بالعالم!!
نما الإنسان الأول.. عمر إلى أكثر من الخمسين.. كان عمره أطول من أعمارنا.. فهو أجدر بهذا منا.. فقد كان يبني مدينتنا.. ويعمل لأجلنا!!
كبر كوخه.. لم يعد يصطدم بجدرانه المتقاربة.. صار أفسح حيث كثرت الجدران وتباعدت.. وصار قادرا على التجول في أرجائه بدون ارتطام.. نما تفكيره.. وفهم الحياة بدون قراءة..
ليست صعبةً جِدا..
تشبه الملح الذي ألثمه بعد طول وقوف أمام صوت الهيبة المرتطم بأقدامي.. والذي يدفنهما تحت كومة حصى ورمال صغيرة.. ولو لم أنتشل قدميَّ من تحتها لدُفنتُ جميعي.. وفقدتُ الصوت!!
أمسكَ الإنسان الأول حجري صوان صغيرين في كفيه وضربهما ببعضهما.. فانبعثت شرارة.. كانت ساخنة دافئة.. لم يفهم أنها خطيرة ومُحرِقة.. فأحرق الغابة.. امتدت النار إلى حوافِّ البحر فلم تُحرِقه.. اكتشف عندها أن الماء أقوى من النار.. فأحب الماء!!
حكيتُ كل هذا لابنتي .. فسألتني:
- وما شأن هذا بالحقيقة؟!
يبدو أن الحقيقة صراعٌ دائم بين يابسة وماء, هواء الحياة والاختناق, صوت احتراق الحطب وصوت غناء البحر, شعب جائع وتخمة لا يفهمون معناها..
قالت:
- لا يغيب هذا عن إليزابيث!!
- لا شيء مفهوم عندها.. ربما لا يغيب, لكنها لا تُدرِك هذا الوجود.. فهي تعيش بعيدا عنه.. لن تحاول أن تجوع أو تعيش بائسة..
- أبي, متى سنعود إلى مدينتنا؟!
- مع رعشة الصباح!!
- أتقصد مع شروق الشمس في الغد؟!
- لا فرق..
...
كل ما في الأمر.. أن الضوء عندي مختلفٌ..!
**********منقول*********